الجمعة، 12 سبتمبر 2008

عم مسعود يقول.. جمال هيغير خريطة مصر


وأخيراً جاء عم مسعود، جاء علي المقهي الصغير الهادئ في نهاية شارع أحمد سعيد، مقهي به أربع ترابيزات وثمانية مقاعد ومنصة شاي وخلافه وثلاجة كوكاكولا حمراء وفقط، عم مسعود رجل طويل القامة كالنخلة مشدوداً رغم كبر سنه، أنيقاً علي قديم، أناقة الستينيات وبه مَس من الكِبر والعجرفة، يدخن سجائر لف، يلفها بنفسه باستمتاع، يدخن أول نفس ويطلقه في الهواء، كأنه يأخذ النفس الأول في حياته، غامض وقليل الكلام وتدور حوله الشائعات،
مرة يقولون إنه كان يعمل في منصب حساس مع جمال عبدالناصر الذي يعشقه ويكره «السادات والأهلي وقذارة القاهرة»، ومرة قالوا إنه كان ثرياً، يعيش ببذخ إلي أن أفلس وأصبح ذلك حاله، ومرة يقولون إنه كان ضابط مخابرات وخرج علي المعاش، وعم مسعود نفسه لم يرح أحداً ولم يتكلم في الماضي مطلقاً إلا في السياسة، هو لا يحبني إلا لشيئين، أنني زملكاوي، ولأنني من بورسعيد الذي عاش فيها فترة من حياته ويعرف شارعنا وتاريخه جيداً، لذلك هو يصطفيني ويجلس معي كلما ظهر، وهو قليل الظهور جلس بجواري وهو يقول السلام عليكم بفتور، إزيك يا تورتة، بيدلعني كما ترون، قلت فينك ياعم مسعود، إيه الغيبة الطويلة دي، قال بفتور، حصل إيه يعني، الدنيا اتهدت، ما هي زي ما هي، إيه الجديد، ظهرت ولا غبت «واحد» لم أنطِق وصَمت، قال، شفت الحريقة، قلت شفتها دي رهيبة، ضحك عم مسعود أخيراً حتي سعل وتمخط ثم أخرج منديلاً من القماش وبصق فيه وهو يقول أحسن، حريقة معتبرة، حد يفكر يحرق مجلس الشوري في وسط البلد، بلد إيه دي، قلت لسه ما حدش، عارف اتحرق إزاي، نظر إليَّ بطرف عينه بخبث وقال محدش عارف، اوعي تصدق إن حاجة بتحصل في الدولة هم مش عارفينها، عارفين طبعاً، لسه، لسه لسه كتير بكره هتعرفوا كتير ولو عرفتوا هتعملوا إيه يعني ولا حاجة، المستخبي أفظع، تجرأت وقلت: إنما قول لي ياعم مسعود إنت كنت بتشتغل إيه بجد، أنا سمعت حاجات كتير عنك، وكنت مكسوف أسألك، وضع محسن القهوجي قهوة عم مسعود الذي أخرج علبة سجائره الملفوفة بعناية وأخذ واحدة وراح يعد الباقي ثم أغلق العلبة وراح يخبط السيجارة في ظهر العلبة وهو يقول، مكسوف من إيه ياخويا إن شاء الله، ابقي حط علي وشك «منخُل»، قلت بجد إنت كنت بتشتغل إيه، صمت قليلاً وأشعل السيجارة وهو يقول ماكنتش باشتغل حاجة، عواطلي، نظرت بدهشة رافعاً حاجبي، وقلت بجد، قال آه بجد بس كنت باعرف ناس كبار في البلد، كبار قوي قلت زي مين، قال كنت أعرف المشير عامر وكنت أعرف عثمان أحمد عثمان وصلاح نصر وعبدالناصر نفسه والبربري، قلت مين البربري، قال: الأراجوز السادات، إيه عيب، كانوا بيسموه كده رغم إنه كان طيب وجدع وفلاح بس خبيث وعايز الحق، كان أذكي واحد فيهم، كان عارف هو عايز إيه، عمره ما كان بيلعب، يسكروا وهو فايق، يتكلموا وهو ساكت، يرفضوا وهو يصفق بس كده، ده أنا أعرف عنه حاجات كتيرة عشان كده ما كنتش باحبه، الله يرحمه بقي ويرحمهم جميعاً، قلت ومين تاني قال هيكل أهو ده بقي كان المعلم الكبير قوي، كانوا بيكرهوه لكن الريس كان بيحبه قوي، قلت وقد اعتدلت في جلستي وفتحت أذناي وكنت حريصاً علي عدم مقاطعته وقلت يعني كنت بتشتغل إيه برضه ياعم مسعود، قال ولا حاجة قلت لك أنا عرفت الناس دي لأني كنت من بلد المشير عامر بس كان صاحب أخويا الكبير، كنت ساعات بتاجر في الملابس والجزم والفاكهة والمعسل وحاجات كده كام شهر بس هي دي كل شغلتي، سيبك إنت من الكلام ده، قول لي البلد أحوالها إيه، قلت يعني مش عارف ما إنت شايف، قال: لا البلد بتتغير كتير، البلد دي ما اتغيرتش من أيام الثورة، كانت شبه بعضها، دلوقتي كل حاجة بتتغير بسرعة، بسرعة رهيبة، البلد دي بعد عشر سنين مش هتكون مصر اللي نعرفها، بص يا ابني حواليك، النظام ده الوحيد اللي حكم مصر عارف هو عايز إيه كويس، والكل بيلعب لخدمته هي بس الحكاية دي بدأت بظهور «الولد جمال»، ده رهيب ومخيف، قلت بجد مش حاسس، قال تبقي حمار، لا ده جامد قوي، ده يا ابني بيغير خريطة البلد من الأول، ده لو مسك مصر هيكون أقوي رئيس جمهورية، حاسم وماعندوش قلب، السياسة كده والكل بيلعب لمصلحته هو بس ده لو مسك الحكم هنبقي دولة كبري بجد، صحيح الفقرا هيزيدوا والأغنياء هيزيدوا لكن البلد هتتغير غصب عن التخين، بص في عينيه كويس وتابعه، جامد وواثق ومش متردد، اسألني أنا عن الناس دي، دول مرعوشين مابيناموش الليل يا ابني ربنا يكفيك الشر، ده بينام كويس وبيخطط واوعي تصدق إن حد ضده، كلهم معاه، بكره تشوف، قلت يعني إنت معجب به قال: لأ، معجب لأ، أنا بس باقول لك انطباعي بعد عبدالناصر مافيش خير للناس الغلابة، لكن ده حاجة تانية قطعية تانية خالص مخيف، إلا قول لي عاجبك الزمالك، قلت يعني بيتطور، قال الزمالك هو، هو فريق معلمين هيفضل طول عمره الثاني، والأول لما الأهلي يخيب.. أطفأ عم مسعود سيجارته ودهسها تحت حذائه اللامع ورشف آخر رشفة من فنجان القهوة ونهض وهو يقول، أشوفك بخير ومشي بطيئاً إلي آخر الشارع يشير بيده إلي الجالسين ونظر للشمس واختفي في شارع صغير، شارع صغير جداً!!!.


طارق رضوان عن جريد الدستور

هناك 5 تعليقات:

غير معرف يقول...

help me.

أنا و دماغي يقول...

مقاله رائعة جدا...

mido g يقول...

الشكر لكاتبها الاستاذ طارق رضوان

Desert cat يقول...

انا برضه شايفه زى عمو مسعود البلد بتتغير بسرعه والخريطة بفعلا بقت عاليها واطيها حتى مدلولها تاه
تحياتى

mido g يقول...

desert cat

انا متفق مع عم مسعود فى كل اللى قاله ماعدا اننا حنبقى دولة كبرى على ايد جمال

شكرا لمرورك